OVA6_Adam

خسوف

آدم  |  سبتمبر 2025


 

كانت الساعة السادسة والنصف مساءً حين هبطت الطائرة على المدرج، بعد رحلة استغرقت أكثر من سبع ساعات. انتهيت من إجراءات الدخول، ثمّ توجهت إلى الصالة الخارجية، وبينما كنتُ أفعّل شريحة الهاتف سمعتُ أحدهم ينادي:

 

    • نوّرت لندن يا زعيم!

استدرتُ حولي فإذا به أسيد؛ سلَّمت عليه وعانقته بقوة، ثمّ نظر إليّ وراح يعبث بشعري وهو يقول:

 

    • أين شعرك الكثيف البني؟ لقد شبِتَ باكرًا يا رجل!

سألته وأنا أضحك:

 

    • وأنتَ ما هذا الكرش؟

فردّ بسخرية:

 

    • ستنضم إلينا عاجلًا أم آجلًا، انتظر وسترى.

التفتُ وسألته:

 

    • أين يزن؟

    • ينتظرنا في السيارة، لديه اجتماع.

    • ألا تنتهي اجتماعاته؟

    • هذه ضريبة العمل الحرّ.

سحبت حقيبتي وانطلقنا معًا، وهناك في مرآب السيارات كان يزن يقف أمام السيارة؛ وحين لمحنا أنهى مكالمته ثمّ أسرع نحونا وهو يلوّح قائلاً:

 

    • آدم في ديارنا، يا للسعد والهناء! أكان من الضروري أن تنتظر كلّ هذه المدّة لتزورنا؟ يجب أن نشكر مديرك في العمل.

أخذني بين ذراعيه، وبعد السلام الحارّ صعدنا إلى السيارة، فسألني أسيد وهو يستعدُّ للانطلاق:

 

    • ما رأيك أن أوصلك إلى الفندق أولًا لتأخذ قسطًا من الراحة؟ ثم نذهب للعشاء معًا.

    • لا، لست متعبًا.

    • ألم تقل قبل قليل إنّك متعبٌ للغاية؟

أجاب يزن:

 

    • استعاد نشاطه برؤيتنا.

تنهّدتُ وأجبتهما بجديّة:

 

    • نعم! هذا صحيح!

نظر أسيد إلى ساعته ثمّ قال:

 

    • أتعلمان؟ سيبدأ الخسوف الكلّي بعد قليل حالما يشرق القمر.

فردّ يزن:

 

    • آه هذا صحيح، إذن نستطيع مشاهدة الحدث.

انطلقنا، وحين أصبحنا على الطريق السريع بدأنا بالبحث عن القمر، فالسماء لم تكن قد أظلمت بعد. قال أسيد بينما كان يركّز في الطريق:

 

    • ابحثا في الجهة المقابلة لغروب الشمس، يجب أن تجداه.

جعلت أحدّق في السماء، وفجأة وجدته بالفعل؛ بدا القمر كدائرةٍ زرقاء لها محيط زهريّ فاتح، لكن سرعان ما تغيّر المشهد عندما غربت الشمس تمامًا، إذ أصبح القمر واضحًا تمامًا: أحمر دامٍ!

كان السائقون من حولنا يقودون سياراتهم ببطء، بينما توقف بعضهم على الطريق السريع للاستمتاع بمراقبة تلك الظاهرة الفريدة، فاقترح أسيد أن نتوقف قليلًا في أحد مواقف الاستراحة لنشاهد خسوف القمر الكلّي، ونصلّي المغرب، ثمّ نؤدي ركعتي صلاة الخسوف. قلت له:

 

    • لكنّي لستُ متوضئًا!

نكزني يزن وأشار بيده إلى صندوق السيارة الخلفي، ففهمتُ أنّ أسيد يصطحب معه المعدات اللازمة للوضوء والصلاة. فتحت صندوق السيارة، وبالفعل وجدتُ كلّ ما أحتاجه: ماءً، مناشف، أحذية خفيفة، وسجاداتٍ للصلاة. توضأتُ وشرعنا في الصلاة وأمَّنا أسيد. لقد مرّت سنوات طويلة لم أصلِّ فيها خلف أسيد، ويبدو أنّ صوته خلال تلك السنوات أصبح أكثر عذوبة، وقراءته أكثر خشوعًا. فرغنا من الصلاة، وحينئذٍ كان القمر قد بدأ بالبزوغ مجددًا؛ لم تكن فترة الخسوف الكلّي طويلة في لندن، إنّما كانت عابرة وسريعة.

توقفنا نحن الثلاثة نتأمّل هذا المشهد المهيب بهدوء، إلى أن قاطع أسيد تأمّلنا قائلاً:

 

    • الحمد لله على نعمة الإيمان! المساكين يتأمّلون المشهد بحرمان!

تنهّد قليلاً ثمّ أردف:

 

    • ما أجمل الشعور الذي ينتابنا حين نقول: “سبحان الله” ونحن نتأمّل عجائب خلقه وبديع صنعه، ونرى عظمته وجلاله، ونستشعر فضله علينا. هذا القمر بجماله وضيائه وبزوغه وخسوفه وشروقه وكلّ تحركاته سُخِّر لنا نحن! اللهم لك الحمد.

صمتَ لبرهة ثمّ وجّه كلامه للقمر قائلاً:

 

    • ربّنا وربّك الله.

كررتُ ما قاله في سرّي، وعدنا إلى السيارة وانطلقنا إلى مركز مدينة لندن، وهناك تناولنا طعام العشاء معاً وحظينا بسهرة رائعة؛ كان حديثهما جادًا وماتعًا. لا أجمل من الجلوس مع أشخاص ودودين، مثقفين، متواضعين، منفتحين وواسعي الأفق. ولحسن الحظ كان الطقس جميلًا، فاستطعنا أن نتمشّى بمحاذاة نهر التايمز، وحين نفدت طاقتنا تمامًا ونال منّا النعاس، استسلمنا، فأوصلاني إلى الفندق ووعداني بأن يتفرغا لي يوميًا خلال مدّة زيارتي، بمجرد انتهائي من العمل.

كنت متعبًا إلى حدٍّ كبير، ارتميت على السرير، ورغم كلّ ما اعتراني من نعسٍ وإرهاق، لم أستطع الخلود إلى النوم…

مرّت ساعة وأنا على هذه الحال، أسترجع مشهد خسوف القمر وبزوغه السريع، وأفكّر…

شعرت بعدها برغبة في الحديث مع سلام، فاتصلت بها.

 

    • سلامي؟

    • أهلاً آدم! هل أنت بخير؟

    • أنا بخير! لماذا أنتِ فزعة؟

    • ألم ترسل لي منذ ساعة أنّك ستنام؟

    • أجل، هذا صحيح.

    • إذًا ما الأمر؟

    • اشتقت إليك؛ هل هناك أي مانع؟

    • لا أبداً!
    • هل نام الأولاد؟
    • على وشك ذلك.

    • جيد، هناك شيء أودّ أن أسألك عنه…

    • تفضّل! أنا أسمعك

    • سلام، أخبريني: هل أنا شخص سيئ بالمطلق؟

    • هل تتصل بي بهذا الوقت ومن خلف المحيط لتسألني هذا السؤال؟

    • أجبيني أرجوك!

    • كما تشاء، لا، لستَ سيئًا بالمطلق!

    • سلام! أعلم أنّي في بعض الأحيان وبشكل عابر وطارئ، حين أغضب، أصبح مظلمًا، أجرح، وأتمادى، وربما أظلم؛ لكن سرعان ما يبزغ الجزء الخيّر فيَّ مجددًا، أليس هذا صحيح؟

    • أجل صحيح، لا تقلق، كلنا نمرّ بأطوار مختلفة.

صمتنا قليلاً، فرحت أسترجع أحداث الشهر الماضي، وأحاول إحصاء عدد المرات التي غضبت فيها وفقدتُ أعصابي، قاطعت سلام أفكاري وقالت بهدوء:

 

    • آدم! مهما يكن، ستبقى شمسي التي تنير حياتي.

ثمّ أردفتْ بمرحٍ وحيوية:

 

    • لكن هذا لا يمنع أن تخفف عصبيتك! سيسعدني ذلك كثيرًا.

أجبتها بجدية:

 

    • سأحاول، أعدك سلام!

    • إن شاء الله، والآن حاول أن تخلد إلى النوم؛ لديك جدول مهمات طويل غدًا، تصبح على خيرٍ وسلام!

    • أحبّك كثيراً.

    • وأنا أحبّك أكثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top