وصلتُ إلى مكتب المدير عند العاشرة صباحاً. ليست المرّة الأولى التي أنتقل فيها إلى مدرسةٍ جديدة، لكنّها المرّة الأولى التي ألتحق فيها بمدرسةٍ متميّزةٍ إلى هذا الحدّ. استقبلني المدير بلطفٍ وحفاوة، وبعدها اصطحبني إلى مكتبي، صعدنا الدرج وعندما وصلنا وجدتُ لافتةً على جانب الباب تحمل اسمي: الأستاذة هناء، الخبيرة والمرشدة الاجتماعيّة لمدرسة الجسور الآمنة.
أعطاني المدير المفتاح وهو يقول:
-
- هذا هو مكتبك يا آنسة هناء، أدواتك المكتبيّة محزومةٌ في هذا الصندوق، أمّا جهاز الحاسب فسيصل غداً، وحينها تستطيعين تفعيل حسابك وبريدك الإلكترونيّ.
ابتسمتُ وأنا أشكره، فأكمل كلامه:
-
- دعيني أعرّفك الآن على المدرسة من خلال جولةٍ قصيرة.
ومضينا نتجوّل بين أروقة المدرسة، بينما راح المدير يشرح لي قائلاً:
-
- في مدرسة “الجسور الآمنة”، كلّ شيءٍ مدروسٌ بدقّةٍ وعناية، شعار المدرسة هو: “سنحافظ على شعلةٍ مستدامةٍ لمستقبلٍ أكثر إشراقاً للأجيال القادمة”. نحن نُعنى بكلّ ما يمتّ للبيئة بصلة، بدءاً من ترشيد استهلاك الماء، والكهرباء، والموارد، مروراً بحملات تبادل الكتب والأدوات بين التلاميذ، وانتهاءً بفرز النفايات لإعادة تدويرها. صُممت المباني التابعة للمدرسة لتكون صديقةً للبيئة، نحن نستهلك أقلّ قدرٍ من الوقود الأحفوري، ونعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الطاقة النظيفة.
بعدها مررنا أمام عدّة فصولٍ دراسيّة، فأردف كلامه وهو يشير نحوها:
-
- في الفصول الدراسية، يستخدم المعلّمون والتلاميذ الوسائل الأقلّ حاجةً للطاقة، ويوفّر الورق قدر الإمكان. نحن نسعى في مدرسة “الجسور الآمنة” لتأمين جسرٍ آمنٍ للأجيال المقبلة، ولأجل ذلك، لا نستخدم البلاستيك إلا عند الضرورة. انظري حولك في المدرسة، سترين أنّ كلّ الأدوات مصنوعةٌ من الخشب أو الورق أو الزجاج، وإذا لزم الأمر نستعين بالأدوات المصنوعة من البلاستيك القابل للتحلل.
بعدها جلسنا في غرفةٍ مجهّزةٍ بالمعدّات التقنيّة الحديثة والذكيّة، وراح المدير يشرح لي مهامي وواجباتي في المدرسة:
-
- آنسة هناء، كما تحدّثنا مسبقاً، تتمحور مهامك الأساسيّة في مدرستنا حول النقاط التالية: تقديم الدعم النفسيّ والعاطفيّ للتلاميذ، وتوعيتهم بقضايا المجتمع، والعمل على تحسين العلاقات الاجتماعيّة داخل المدرسة، وتوجيه تلاميذ الصفوف المتقدّمة في اختيار مسارهم الدراسيّ والمهنيّ، وتوفير الدعم اللازم للتلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصّة. إضافةً إلى ذلك، سأوكل إليك مهمّة محدّدة كلّ شهر، ودعني أبدأ من هذه النقطة.
صمتَ قليلاً ثمّ تابع كلامه:
-
- إنّ رؤية المدرسة في توجيه التلاميذ نحو العمل الجماعيّ لحماية البيئة وتحسين جودة الحياة هي رؤية حقيقية وعمليّة، وكي نضمن سلامة وسلاسة هذه العمليّة يتوجّب علينا أن نتتبع ونقيس استعداد التلاميذ وتفاعلهم مع رسالتنا باستمرار. لقد أجرينا الأسبوع الماضي استفتاءً، حصل بعض التلاميذ من خلاله على تقييم سيءٍ، ذلك التقييم يعكس عدم فهمهم لرسالة المدرسة وعدم اندماجهم مع مبادئها. ومهمّتك الأولى هي أن تطّلعي على نتائج ذلك الاستفتاءٍ وتمعني النظر في ظروف وشخصيّة هؤلاء التلاميذ، وحالما تنتهين من هذه المهمّة سنعقد إجتماعاً ونناقش الأمر، وأتوقّع منكِ أن تعرضي عليّ تحليلك واقتراحاتك.
وفي اليوم التالي، وصلتُ باكراً، فرأيتُ مشهداً مذهلاً لم أعتد عليه، فالتلاميذ أغلبهم يأتون إلى المدرسة مشياً على الأقدام، أو على درّاجاتهم الهوائيّة، التي خُصّص لها موقفٌ فسيحٌ لركنها بترتيبٍ وانتظام. توجّهت إلى مكتبي، فوجدت بأنّ جهاز الحاسب قد وصل بالفعل. أمضيت عدّة ساعاتٍ إلى أن أتممت تفعيل حسابي وبريدي الإلكتروني، وحينها وصلتني رسالةٌ من المدير، أرسل فيها رابطاً لنتائج الاستفتاء الذى حدّثني عنه. أسرعت مباشرةً للاطلاع عليه. مرّت أسابيع وأنا منغمسةٌ في دراسة الاستفتاء ونتائجه إلى أن اكتمل التقرير، فأرسلت للمدير بريداً إلكترونيّاً لأعلمه بالأمر.
الأستاذ حسّان المحترم،
تحيّة طيّبة وبعد،
أنهيت للتوّ التقرير الأوّل لمهمّتي الأولى في مدرسة “الجسور الآمنة”. استغرق تحضير التقرير شهراً كاملاً من الدراسة والتمحيص والبحث. حاولت خلال هذا الشهر التقرّب من التلاميذ والتعرف إليهم عن كثب، وبالفعل نجحت في إجراء العديد من الحوارات الغنيّة معهم، وبالذات هؤلاء الذين حصلوا على تقييمٍ سيّءٍ في مسألة التنمية المستدامة. وعلى إثر ذلك وضعت مقترحاتٍ وخطواتٍ عمليّة لتدريبهم على الفكرة وجوهرها، وستجد تلك المقترحات في الملف المرفق الذي سنناقشه في موعدنا القادم. على أيّ حال، هناك أمرٌ لفت انتباهي أودّ الإشارة إليه. ففي بعض الأحيان عندما نضع المكبرة للبحث في قضيةٍ ما، تنكشفُ لنا مشكلاتٌ لم نكن نعلم بوجودها، أو بجدّيتها على الأقل، وهذا ما حدث معي.
تقتضي رسالة المدرسة تأمين مستقبلٍ زاهرٍ للأجيال القادمة، وبالفعل، خلال تواجدي في المدرسة، رأيت مظاهر وصوراً تعكس رؤية المدرسة وأهدافها، فالتلاميذ يحترمون قواعد المدرسة، لا يأكلون إلا طعاماً صحيّاً وعلى قدر حاجتهم، ولا يرمون النفايات إلا في مكانها الصحيح، لا يهدرون الموارد، ويحافظون على كلّ قطرة ماء، وشحنة كهرباء، ونسمة هواء، لكنّي في المقابل لمستُ تناقضاً غريباً ودعني أشرح لك الأمر.
حضرة المدير: هل تعلم بأنّ تلاميذنا غير قادرين على تركيب جملةٍ واحدةٍ صحيحةٍ في اللغة العربية؟ حين يتحدّثون يمزجون أربع لغاتٍ بل ربما أكثر، فلا تفهم من حديثهم سوى السياق العامّ والذي يدلّ في كلّ الأحوال على أفكارٍ وتوجّهات لا تمتّ لثقافتنا ولا لمجتمعنا بصلة!
اللغة يا سيدي ليست أداةً فحسب، إنّما هي ثقافةٌ وفكرٌ وأفعالٌ ومواقف وسِمات. كيف سيحمل هذا الجيل إرثنا وتاريخنا وعراقتنا وهم لا يتحدثون بلغتنا؟ ولا يفهمون منطقنا؟ ولا يستسيغون ثقافتنا؟ ولا تعجبهم طريقة تفكيرنا؟
أدركُ بأنّ لكلّ زمنٍ سمته الخاصّة، وأؤمن بمبدأ التطوير والتغيير عبر الأجيال، لكن ما يحدث في هذه الأيام هو طمسٌ لملامحنا، ومسحٌ لشيمنا، وتشويهٌ لجمالنا. هناك تعمّدٌ واضحٌ لتحويل المنطق العربيّ والدينيّ الذي نشأنا عليه وتوارثناه على مدى قرون إلى مسمّياتٍ أجنبيّة رائجة. فحتّى أخلاقنا ومناقبنا التي يتمتّعون بها يغلّفونها بمفاهيم عالميّة، ليبعدوا عنهم سبّة التخلّف.
هل يعقلُ أن نصبّ كلّ اهتمامنا على جودة الطعام والشراب والهواء، ونهمل جودة التربية والأخلاق؟ وأنا هنا لا أقللّ من شأن وأهمية رسالتكم وما حقّقتموه من منجزاتٍ، على العكس تماماً، فأنا معجبةٌ أشدّ الإعجاب بمنهجية المدرسة وأدائها المتميّز، وأتمنى لو تحذو جميع المرافق التعليميّة والاجتماعيّة حذوكم، لكنّني أتساءل: كيف نبني جسراً آمناً لعبور الأجيال المقبلة، بجيلٍ لا ينتمي إلى نفسه بالأساس؟
أطلتُ عليك، فاعذرني!
تحيّاتي،
الآنسة هناء.
بقلم: سحر خواتمي