أن تجعل قارئاً ينغمس في قراءة روايةٍ لا تنتمي للتصنيف الذي يفضّله، فهذه علامة إبداع. لستُ من هواة التصنيف الذي تنتمي إليه رواية “الشلال”، ومع ذلك لم أستطع إلا أن أقرأها بشغفٍ واستمتاع.
بلغةٍ سلسلةٍ، وبإتقانٍ، ورويّة، يبني الكاتب شخصية “همام” بوضوحٍ منذ الصفحات الأولى، بدءاً من خيالات “همام”، مروراً بمكان عمله، وحواراته مع صديقه “كيتشي”، لنكون على استعدادٍ تامٍّ للإصغاء إلى تفاصيل رحلة بطلنا “همام” إلى قرية “كيتشي”، هناك حيث يطمح إلى خوض تجربةٍ روحيّةٍ فريدة.
أشعر أنّها تجربتي الأخيرة، إما أن أبلغ الاستنارة أو ستكون النهاية!
هكذا كانت كلمات “همام” وهو مقبلٌ على تجربته الأخيرة، إذ كان لديه رغبة عارمة في الوصول إلى أعلى مستوى في عالم الأرواح، ومهارات التخاطر والتأمّل، وبسعيٍ حثيث، وتخففٍ من كلّ ما يمنع وصوله إلى تلك الرغبة، أصرّ “همام” أن يصمد أمام كلّ المصاعب التي أقحمه بها الشامان، بدءاً من تجربة الكوخ، مروراً بحفلة الآيوواسكا “المرخصّة قانونياً!” والتي أصابتنا جميعاً بالدوار والغثيان، انتهاءً بتجربة العبور، والتي رأينا فيها مع “همام” حركة البومة، وسرعة اختفائها، وسمعنا صوت الثعلب وهو يتحدّث، ووقع أقدامه في دائرة الوهم.
لم تكن تلك التجارب مرضيةً لـ”همام”، الذي ذهب إليها متعباً، وعاد منها أكثر إنهاكاً، وضياعاً، وتيهاً. تمرّ أسابيع ثمّ تأتي لحظة لقاء “همام” بالدكتور “فراس”، لتأخذ بعدها الأحداث منحىً مختلفاً. “فراس” الذي تحلّى بالمواصفات الأساسية والضروريّة للمؤثّر، ألا وهي: العلم، والحكمة، والرحمة، والصبر، والتواضع.
ومع توطد علاقة الصديقين، دمج الكاتب أفكاراً عديدة مع بعضها البعض ببراعة، ولم يقتصر على موضوع الرواية الأساسي، فتطرّق إلى القضية الفلسطينية، وتناقض مفهوم الإله في العقد القديم، كما وظّف زيارة معلّم حقيقيّ “متحف آغا خان” في سياق الأحداث بطريقة سلسلة لترسيخ وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة عن عالم الأرواح، والشياطين، وتوضيح أصل المذاهب الصوفية.
تمرّ الأيام، ويتعلّق “همام” بالمسجد أكثر وأكثر، ويعبّر عن ذلك بسؤالٍ دافئٍ للغاية:
ما الذي فعلتَه بي يا مسجد؟!
يتعلّم، ويدرس، ويقرأ، ويجتهد -رغم تدهور حالته الصحيّة- إلى أن يصبح مستعدّاً للإيمان، ليأتي مشهد إسلامه مؤثّراً وحسناً للغاية. وما إن يطمئن قلبه بالإيمان، وتسكن روحه بالقرآن، وينجو ويتخلّص من درك وأوهام الشيطان، حتّى نقترب من النهاية: “الثالث والعشرين من شهر نوفمبر”، النهاية الظاهرية فقط، فيودّع الدكتور “فراس” صديقه “همام”، ليلتقيه بعد ذلك في حلمٍ جميل، هناك حيث تلتقي الأرواح بإذن ربّها.
الرواية مليئة بالمعاني الجميلة، وتتميّز بنقاط قوة عديدة ومهارة في سرد الأحداث، لعلّ أبرزها:
- محافظة الرواية على تصنيفها: فعلى الرغم من وصف الكاتب لتفاصيل المعتقدات والطقوس الوثنيّة، وملامح الكينونات التي تتراءى لـ”همام”، إلا أنّ المشاهد جاءت مقبولة وغير مخيفة، ولم يتغيّر تصنيف الرواية إلى فئة “الرعب”، وهذه براعة تحسب للكاتب.
- نسجت الأحداث مع الأفكار بطريقة مقنعة: إذ ابتعد الكاتب عن زجّ الأحداث بشكلٍ مفتعل، فأعطى كلّ حدث حقّه كاملاً، ولم يبخل في الإسهاب في موضعه المناسب.
- جاء مشهد المارد والقزم، من أكثر دروس الحثّ على أذكار الصباح والمساء تأثيراً.
أمّا عن الحبكات:
- وظّفت حبكة المرض لتكون السبب الأساسي للوفاة، وللتنويه إلى استهتار متّبعي تلك المعتقدات الغنوصية والمذاهب الروحانيّة الشركية في التعامل مع العلم والأمراض بجدية، ووظّف توقيت الوفاة ليصادف وفاة الطفلة “ريم” روح الروح –رحمها الله وجدّها وتقبّلهما في الشهداء- كما مُهّد لأعراض مرض همام في كلّ فرصة ملائمة منذ بداية الرواية.
- جاء استخدام حبكة الحلم ملائماً مع الأجواء الروحيّة للرواية، ولم يأتِ كاستسهال للحظة استنارة الشخصية الأساسية، كما كانت الطريقة الوحيدة للتواصل بين “فراس” و”همام” بعد وفاته.
- المأخذ الوحيد، والحدث الذي جاء باحتمالٍ مركّب بعض الشيء: هو المشهد الذي سبق اللقاء الأوّل بين “همام” والدكتور “فراس”، فأولاً “همام” بحالة غير واعية، ولا أعتقد أنّ لديه الفضول الكافي وهو بهذه الحال أن يقرأ أو يتفكّر بأي إعلان، ناهيك عن قلة الإعلانات الورقية والمطبوعة في زماننا الحالي، أمّا عن المسجد، فكيف لم يتنبّه إلى وجود المسجد في الحيّ الذي يقطن فيه كلّ هذه السنوات، إلا إن كان المسجد قد افتتح حديثاً، ربما!
- استخدت حبكة القفز إلى المستقبل (إلى عام 2044) بمهارة وأمل وتفاؤل.
- في ختام الرواية، استخدم الكاتب تقنية النسخ والتكرار لوصل النهاية مع البداية، وكما هو دوماً لا يمكن لتقنية التكرار أن تفشل في التأثير في النفوس مهما تكررت! لذا كانت الخاتمة جميلة ومؤثرة.
وعلى الرغم من تصريح “همام” ذاته بعدم اهتمامه بالأنمي، إلا أنّي لم أستطع منع نفسي من رسم شخصيته، وبالمناسبة، أهو “همّامٌ” أم “هُمام”؟ أظنّه الأخير والله أعلم. بكلّ الأحوال، وأيّاً كان اسمه، فقد كان شجاعاً، ومقداماً، ونبيلاً وعظيم الهمَّة، واجه مخاوفه، وأوهامه بشجاعة، ليعطي درساً لكلّ واحدٍ منّا، بأن يتخلّى عن أي شلالٍ وهميّ يلتجئ إليه، ويجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله ربّ العالمين، لا شريك له.
بقلم وريشة.. سحر خواتمي