الرواية لا تُقرأ فقط، بل تُشاهد وتُسمع أيضًا!
وبينما كنتُ أُقلّب صفحات رواية “من الماء” للكاتبة والأديبة الراقية “مزنة كمال”، سمعتُ خرير الماء…
تارةً يقطر برقة، وتارةً يجري باضطراب..
تارةً ينساب بهدوء، وتارةً يتدفّق بغزارة..
تأخذنا هذه المرّة سلسلة “نقصّ عليك” إلى المغرب العربي، وتحديدًا إلى مدينة فاس، تلك المدينة التي لطالما قرأنا عنها في كتب الجغرافيا أيام المدرسة، وها نحن في الرواية نرى بعض معالمها بتفاصيل دقيقة وواضحة.
ومع مشهد العصفور النشيط، والحرّ الطليق، تُستهلّ الرواية التي تحكي لنا عن قصة “إبراهيم”، الفتى اليافع، الذي يرى نفسه أسيرًا للمواقيت، ومقيّدًا بمواعيد جدوله اليومي.
تدور الفكرة الأساسية للرواية حول ضرورة تنمية حبّ الاستكشاف لدى اليافعين، كما تعرض أهمية تنظيم الوقت، وتحثّ على ممارسة الرياضة والعناية بالصحة البدنية، وتسلّط الضوء على تأثير الذكريات في الإنسان؛ فالمواقف البسيطة، العفوية، الصادقة، والنابعة من القلب، هي التي تنغرس في الوجدان، وتبقى عالقة في الذاكرة.
ومع طعم شاي النعناع المغربي، تصحبنا مزنة إلى معلمٍ فريد في قلب مدينة فاس، إلى المدرسة البوعنانية؛ هناك، حيث تمتزج روعة النقوش الإسلامية بهيبة العلم، وتتناثر بين جدرانها أصداء التاريخ، وهمسات طلابٍ مضوا، وبقيت آثارهم تنبض في المكان.
“يموت الناس ويبقى الحجر.”
ورغم أنّ الرواية موجّهة لليافعين، فإنني أرى أنّ الكبار بحاجةٍ إلى الاطلاع على هذا النوع من الأدب، لا سيّما الآباء والأمهات، ليلتقطوا منها الإشارات المنثورة بين السطور، فيسمعوا من الفتى اليافع كيف يفكّر، ما يحبّ وما يكره، ما الذي يعلق في ذهنه من ذكريات الطفولة، ما الكلمات التي تشجّعه، وأيّها تُثبط عزيمته، وما المواقف التي تدعمه أو تشعره بالخذلان.
“ومن يومها، لم أجد من يشجّعني في نزالاتي، أو يهتف لي إن ربحت، أو يربت على كتفي إن خسرت.”
” كنتُ واثقًا من أنّك ستفعلها.”
لم تقتصر الرواية على المحتوى الجميل فحسب، بل جاء التحرير مميزًا وجذّابًا، وتكاملت معه الرسومات، لتمنح القارئ متعةً بصرية تُكمل روعة السرد. ومن الجميل بالذِّكر، أنّ الكاتبة أبدعت في توظيف صفات وتشبيهات الماء في الرواية، فنسجتها بأسلوبٍ فنيّ ينساب بفطنةٍ وجمال، كما ينساب الماء في مجراه الطبيعي دون تكلّف.
“صمتَ قليلًا، تاركًا إيّاي أغوص في بركةٍ من دهشةٍ وحنين.”
“وشعرتُ بأنّ ماء الأعين قد غسل كلّ ما علق في النفوس من مشاعر سلبية، في نفسي وفي نفس والدي.”
رواية “من الماء” هي عمل لطيف ومنعش للروح، يرسخ مفاهيم واعية وغنيّة في أذهان اليافعين، حول كيفية تفاعلهم مع الزمن، والعلم، والتجارب والأحداث الماضية.
فأيامنا كقطرات، تنساب واحدةً تلو الأخرى، وكلّ قطرة تمضي، وتحمل معها ذكرى خاصة بها:
عِبرة، عَبرة…
ضحكة، دمعة…
حلمٌ جميل، وومضة أمل…
نبضة قلب، وغصّة ألم…
وكلّ تجربة تستحق التأمّل، التقدير، والامتنان، حتى تلك القاسية منها؛ فالحياة مدٌّ وجزرٌ، لا تستقر على حال، وعلينا أن نستمرّ في السعي، كي نجعلها نهرًا جاريًا بما ينفع الناس، حتّى إذا ما التفتنا خلفنا، وجدنا أنّ نهرًا قد تشكّل من كلّ ما ظننّاه عابرًا.
بقلم.. سحر خواتمي
قراءة جميلة ومميزة أفخر بها . كل الشكر والتقدير
من دواعي سروري، وممتنة لفرصة التواصل والنقاش المباشر مع الكاتبة..
تحياتي