أُسَـيد | أكتوبر 2000
كان قلبي يرتجف فرحاً، أنهي السورة، فأسمع تكبير من حولي، ثمَّ أستأنف، هكذا إلى أن أنهيت تلاوة سورة الناس، وبعدما كبَّر الجميع، أخذتُ نفساً طويلاً، أغمضتُ عينيّ، وبمقام “الكرد” الذي يفضّله شيخي وأستاذي طارق استفتحتُ ختمةً جديدةً، نظرت نحوه نظرةً خاطفةَ فوجدَّته متأثِّراً بشدَّةٍ، ابتسمتُ وأومأتُ إليه بحبٍّ ورحت أتلو سورة الفاتحة ببطءٍ ورويَّةٍ، وبعدما أمَّن الجميع، تلوت خمس آياتٍ من مطلع سورة البقرة، ومن ثمَّ أخفضت رأسي استعداداً لدعاء ختم القرآن الكريم.
لطالما حلمت بهذه اللحظة، منذ أن بدأت بحفظ القرآن وأنا أحاول أن أسرع في الإنجاز وأنافس أصدقائي في الحلقة، لكن لم يقبل والدي بذلك، واتَّفق مع الأستاذ طارق على جدولٍ خاصٍّ لي يكون فيه الحفظ مرتبطاً مع التفسير، وعلى إثر ذلك؛ سبقني أغلب أصدقائي بختم القرآن الكريم.
تعلَّمت التجويد بشكلٍ سماعي وتلقيني في المسجد منذ أن كنت في الخامسة من عمري، وحفظت الأجزاء الخمسة الأخيرة على مدى ثلاث سنوات، وحين أصبحت في الثامنة من عمري بدأتُ بحفظ سورة البقرة، أحفظ السورة، وأدرس تفسيرها، وما إن أفرغ من تلاوتها وعرضها على أستاذي حتَّى يمتحنني بتفسيرها، فأنتقل إلى السورة التالية، هكذا إلى أن تأتي العطلة الصيفية فأستذكر وأراجع كلَّ ما حفظته.
مرَّت السنوات وتوالت تباعاً، وأتى اليوم الذي انتظرته طويلاً.
عندما عدتُ من المدرسة، تناولت طعام الغداء وبعدما أنهيت واجباتي المدرسيَّة وارتحت قليلاً، انطلقت أنا ووالدي وأخي الكبير حذيفة إلى المسجد لأداء صلاة المغرب. يبعد مسجد أبي بكر عن منزلنا بضعة أمتار، سلكتُ طريقه مئات المرّات، ذهاباً وإياباً، صباحاً ومساءً، لكن اليوم كنت أمشي وأنا أستشعر خطواتي خطوة خطوة، سألني حذيفة وهو يراقبني:
-
- هل أنتَ متوتر؟
أجبته بثقةٍ:
-
- لا إطلاقاً!
ابتسم ووضع يده على كتفي وراح يدعو لي ويتمنَّى لي التوفيق في ختم القرآن الكريم، وحين وصلنا إلى المسجد؛ أخذنا مكاننا بين الصفوف لأداء صلاة المغرب، وبعد الصلاة، جلسنا في ركن المسجد، فالتفَّ أصدقائي في حلقة حفظ القرآن حول الأستاذ طارق، وانضمّ إليهم والدي وحذيفة، بينما بقيت أنا في الطرف المقابل لهم.
ألقى الأستاذ طارق السلام عليّ وسألني:
-
- هل أنتَ مستعدٌّ يا أُسَيد؟
أجبته والابتسامة تعلو شفتيّ:
-
- إن شاء الله.
حرَّك يمينه نحوي قائلاً:
-
- توكَّلنا على الله، هيّا يا أُسَيد رتِّل بسم الله.
كنتُ سعيداً ومتحمِّساً للغاية، وبسلاسةٍ رحتُ أتلو الآيات تباعاً بابتسامةٍ لم أستطع إخفاءها.
كيف سأخفيها وقلبي يكاد أن يطير؟
لم يكن الطريق للوصول إلى هنا سهلاً، فالأستاذ طارق لا يتهاون البتَّة، خطأ واحد في التشكيل كفيلٌ بإلغاء التسميع كاملاً، وإعادته في موعدٍ جديدٍ. كنت أرتِّل الآيات، وأنا أسترجع ذكرياتي مع ملاحظاته وتعليقاته حول مخارج الحروف وصفاتها، والمدود وتوازنها، والأحكام التجويدية ودقّتها.
….
لا تُشرك الخيشوم في غير موضعه يا أُسَيد!
انتبه! لا تهمس حرف التاء وهو متحرِّك.
رحمك الله! حتَّى لو كنت مصاباً بالزكام، حاول ألا تشرك الخيشوم يا بني!
سمعتُ ثلاث راءاتٍ يا أُسَيد! انتبه للراء المشدَّدة، حين تأتي مكسورةً!
قف عند كلمة “الأرض” بثقةٍ، ولا تتهرَّب من “استطالة” الضاد يا أُسَيد!
أُسَيد! صوتك ليس صافياً اليوم، هل عدنا لإشراك الخيشوم مع المدود؟!
ذكرياتٌ كثيرة لا يمكن نسيانها لثلاثين جزءاً تلوتهم على مسامعه، سورةً بسورة، وكلمةً بكلمة، وحكماً بحكم، وضاداً بضاد!
نِعم المعلّم بابتسامته اللطيفة، وخلقه الحسن، لم يسأم ولم يمل من التنبيه والتصويب بإحسانٍ وصبرٍ، وعلى مدى عشر سنوات، لم ينهرني يوماً، أو يشعرني بالإحباط من أخطائي، فهو يعلم أنِّي أبذل جهداً كبيراً وأحاول بكلِّ ما أوتيت من عزيمةٍ وهمَّةٍ.
همست في سرِّي: بسم الله…
ثمَّ رفعت يديّ وكذلك فعل الجميع، وشرعت بالدعاء…
الحمد لله رب العالمين..
الحمد لله الذي أنزل الكتاب هدىً للمتقين، وخلقنا من نفسٍ واحدةٍ، وخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنّور..
بسم الله خير الأسماء، بسم الله الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، اللهمّ إنِّي أسالك بأنَّ لك الحمد لا إله إلّا أنتَ وحدك لا شريك لك، يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام..
اللهمَّ ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً، ذكّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النّهار، واجعله لنا حجَّةً يا ربّ العالمين، نوِّر قلوبنا بالقرآن، وزيِّن أخلاقنا بالقرآن، ونجِّنا من النار بالقرآن، وأدخلنا الجنة بالقرآن، واجعله لنا في الدنيا صاحباً، وفي القبر مؤنساً، ويوم القيامة شفيعاً.
اللهمّ أكرم والديّ، وأكرم كلَّ من علَّمني كتابك الكريم، واجعل لهم بكلِّ حرفٍ من القرآن أجراً عظيماً، واجزهم عنِّي خير الجزاء والإحسان، وارفع مقامهم في الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك فى عبادك الصالحين.
ربِّ زدني علماً، وهب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين واجعلني من ورثة جنَّة النعيم.
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خيرٌ مما يجمعون.
وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا ونبيّنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه الأخيار وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربِّ العالمين.
تنهَّدت ومن ثمَّ رفعت رأسي فوجدت الأستاذ طارق مقبلاً نحوي ودموعه على وجنتيه، ضمَّني إليه وهو يقول:
-
- بارك الله بك يا أُسَيد، وجعلك شعلةً من العلم والإيمان.
ثمّ وضع يديه على كتفي، هزَّني بقوةٍ ممزوجةٍ بالثقة والتفاؤل وأردف:
-
- وقوياً كالأسد، في كلِّ شأنك.
في تلك اللحظة فقط لم أتمالك نفسي، شعرتُ برغبةٍ في البكاء، غرزتُ وجهي في ساعدي وأنا أذرف الدموع، فربَّت والدي على ظهري، وأقبل حذيفة وابن عمِّي منير وبقية أصدقائي ليباركوا لي. قبَّلت يد والدي الذي كان فخوراً ومبتهجاً، فكرَّر دعواته لي، ثمَّ قال:
-
- والدتك وأختاك في ساحة المسجد ينتظرنك بفارغ الصبر، لا تتأخَّر عليهن.
-
- حقَّاً؟
-
- بالطبع!
استأذنتُ الجميع، وهممت بالخروج من قسم الرجال، فناداني الأستاذ طارق:
-
- أُسَيد، ستؤمّنا في صلاة العشاء، كُن مستعدَّاً.
فاجأني باقتراحه، الذي غمر فؤادي سعادةً، أومأتُ له بالإيجاب وانطلقتُ إلى ساحة المسجد، وحين لمحتني والدتي لوَّحت لي، فجريت نحوها كما لو أنِّي أطير، فاحتضنتني وهي تدعو لي بأجمل الدعاء، بينما كانت أختاي تمدحانني بأرقِّ وأعذب الكلمات، ثمَّ ألبستني أختي أميرة عباءة “حافظ القرآن”، ووشاحاً مطرزاً عليه اسمي بإتقان. وبينما كنتُ أصف لهنّ مشاعري، أذّن المؤذّن لصلاة العِشاء، فسألتُ والدتي:
-
- هل ستصلّين العشاء في المسجد؟
أجابتني:
-
- نعم، إن شاء الله.
تحمَّست كثيراً، وقلت لهنّ:
-
- جميل جدَّاً، إذن نلتقي بعد الصلاة في المنزل.
وانطلقت عائداً إلى قسم الرجال دون إخبارهنّ أنِّي من أَؤُم المصلين، جددت وضوئي وعدَّلت مظهري، وحين أُقيمت الصلاة، قدَّمني الإمام مكانه، وعدَّل ارتفاع مكبِّر الصَّوت ليناسب طولي، ومن ثمَّ قال:
-
- هيَّا أيُّها الحافظ، أسمعنا تلاوتك الليلة، بارك الله بك.
كبَّرتُ فكبَّر الجميع، وبدأت بالصلاة بهدوءٍ وتأنٍّ، اخترتُ سورة الحشر لتلاوتها بعد الفاتحة، وفي العادة قد تصدر أصوات ضجيج من الصغار أثناء الصلاة، لكن في ذلك اليوم وحين وصلت لأواخر آيات سورة الحشر، كان الهدوء يعمُّ أرجاء المسجد وساحته، أشبعتُ المدود جميعها لأقصى حركاتها، فغدا صوت الصدى أكثر تأثيراً بتلاوةٍ لن أنساها ما حييت.
وحين فرغت من الصلاة، انسحبتُ وجلستُ بجوار والدي في الصفّ الأوّل، وقبل أن نمضي، خطب بنا الإمام خطبة قصيرة، تحدَّث فيها عن فضل تعلُّم القرآن الكريم، وختم الخطبة بحديثٍ شريفٍ أسعد قلب والدي، الذي ضمَّني إليه وشدَّ على كتفي بفخرٍ واعتزازٍ.
رحت أفكِّر، لا بدَّ وأنَّ والدتي تسترجع الآن تفاصيل رسالتي لها، تلك الرسالة التي كتبتُها في أوَّل أيام عيد الأضحى الماضي، ففي العادة، نقدِّم لوالدتي هديةً بمناسبة العيد، لكن تزامن العيد الماضي مع تحضيري لامتحانٍ بخمسة أجزاء كاملة، وبسبب انشغالي بالحفظ والمراجعة، مضى الوقت ونسيت أمر الهدية. في ذلك اليوم وحين عدنا من صلاة العيد، تسابق إخوتي لتقديم هداياهم المميزة، تلك التي بذلوا من أجلها جهدهم وأموالهم، شعرت حينها بحزنٍ شديدٍ، ولم يكن لدي الوقت الكافي لاستدراك تقصيري، فانتشلتُ ورقةً من أحد دفاتري، وكتبت لها:
أمِّي الحبيبة،
اعذريني! فأنا اليوم لم أجلب أي هدية، ليس الأمر كما لو أنِّي لا أهتم، لكن -وكما تعلمين- فقد كنتُ منهمكاً في الحفظ والمراجعة والتحضير للامتحان طوال الأيام السابقة ولم أشعر بالوقت إطلاقاً.
لا شيء في الدنيا يصف مقدار امتناني وحبِّي لكِ، وأعدك بأن أبذل قصارى جهدي كي أهديك تاجاً من نور، ضوؤه مثل ضوء الشمس.
ولدك، أُسَيد.
وختمتُ الرسالة، بالحديث ذاته الذي ختم به الإمام خطبته:
“من قرأ القرآن، وتعلّمه، وعمل به، أُلبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور، ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويكسى والداه حلّتين لا تقوم بهما الدنيا! فيقولان: بم كسينا؟! فيقال: بأخذ ولدكما القرآن.”
ماشاء الله تبارك الرحمن
سرد رااائع وأسلوب متميز كما دائما