nassej

مراجعة رواية “نسيج” للكاتبة مزنة كمال

لا يُوجد خطأ أبدًا، ولا مصادفة، حين ترتمي في أمواج الأقدار الإلهية لن ترى إلا خيوطًا معقَّدة متشابكة، ستغضب وتشعر بالظلم. أما حين تنتهي اللوحة، فابتَعِد قليلًا وستجد أن هذه الأقدار صنعَت لك خصيصًا أجمل لوحة، وأن خيوطها غَزلَت لروحك أروع نسيج!

 

بأسلوبها المتفرّد ولغتها السلسة والساحرة، أبدعت الكاتبة والأكاديمية المتخصِّصة في الأدب العباسي ،مزنة كمال، في نسج أحداث وشخصيات رواية (نسيج). مزنة التي كان لي الشرف بمعرفتها منذ عدّة سنوات، والوحيدة التي استطاعت أن تنال إعجابي وتقديري بين عشرات المدققين بمهنيّتها الممزوجة بالتواضع واللطف والأمانة ومنهجيّتها المتميّزة في التدقيق اللغوي.

ومع تفاصيل أراها لأوّل مرّة في رواية عن مدينتي، حلب، تُروى معظم أحداث الرواية على لسان (سما) الفتاة الحلبية، الذكيّة، المحتمّسة للحياة، والتي يشغل بالها الكثير من التساؤلات والأفكار وإشارات التعجب والاستفهام. ورغم أنّ (سما) من عائلة شديدة التحفّظ إلا أنّها لم تستسلم بسهولة، بل حاولت ومع كلّ القيود المفروضة عليها أن تطلق العنان لنفسها بالمتاح، تستجيب لحماستها تارة، فتقترب من المناطق المحظورة وتحوم حول الحمى، لكنّها حالما تتراجع بخوفٍ وتردد، وتعيد الكرّة مراراً بأحداث وتجارب وظروف مختلفة.

 

العقبات في الطريق كثيرة، واحدة تُزيحها لتُكمل، والأخرى تُبقيها لتصعد

 

ورغم أنّي لا أوافق (سما) في كثير من الأحيان إلا أنّي لست في موضعٍ لأحكم على مدى صحّة تصرفاتها.

فكيف سأدرك -وأنا لم أعايش هذا النوع من “الاستبداد”- شعور فتاة مُنعت من إتمام دراستها فقط لأنّها أنثى، أو أفهم منطق الحكم الصارم حول كلّ مشوار أو خروج لها من المنزل!

تساءلت وأنا أمضي مع أحداث الرواية، لِم يسلبون الثقة والحرية من الفتاة بتلك الطريقة!

فلقد استفزني كلّ استجداءٍ من (سما) لأبيها كي تخرج من المنزل، وكلّ حيلة كانت تقوم بها لتقابل (جدو نور) بهدف استعارة بعض الكتب والروايات من مكتبته. لقد كانت تلك الدقائق القليلة (وأحيانا الساعات) التي تقضيها وهي تناقش ما قرأته مع (الدكتور نور) من أجمل اللحظات التي كانت تسرقها من الحياة لتعود بعدها إلى روتينها اليوميّ المليء بالتخبّط بين شخصيات تعرفها ولا تعرفها عبر الفيسبوك، فتراها هشّة، تؤثر بها رسالة من هذا أو تعليق مبطّن من ذاك، أو حتّى إشعار إعجاب! وعلى عكس حقيقتها فقد كانت (سما) تحاول أن تظهر بمظهر القوة والسيطرة، تحاول التمرد، لكن ضمن دوائر صغيرة ومضمونة، فتتمرد على آنسة الدرس، التي استحقت بالمناسبة كلّ كلمة قيلت لها بل وأكثر! فقد كانت لسما طريقتها الخاصّة في البحث عن الله وفهمها للصلاة والالتزام في مجتمعٍ يحكم على المظاهر بشدّة ولا يغفر البتة.

 

انتهى رمضان، لكن ربَّ رمضان هنا لا يرحل. انتهى رمضان، والآن فقط ابتدأ العمل

 

تضحكنا (سما) في بعض المواقف، وبالذات حين تصف الأعراس الحلبية، والنسوة غريبات الأطوار اللواتي لا يرضيهنّ شيئاً، صلاة التراويح وتفاصيلها، ناهيك عن شغل الكبّة، والتعزيل والكثير من الأمور التي تعايشها كلّ صبية حلبيّة ولعلّ من ضمنها الخطبة والعرسان. فهي كأغلب الفتيات شغل بالها موضوع الارتباط واختيار شريك الحياة، ومع ثلاثة نماذج من الخاطبين وطالبي القرب، بدءاً بابن عمّتها سامر، مروراً برائد، وانتهاءً بشادي، نرى أنّ (سما) لم تكن ملمّةً بأولويّاتها على الدوام، ماذا تريد ولماذا! وهذا منطقيّ لشخصيّةٍ لم تخالط المجتمع بشكلٍ مهنيّ. لكن في نهاية المطاف، استطاع شادي أن يحظى بقلبها ويظفر بقبولها، لتتحدى كلّ الصعاب وتجتمع به فيكون لها سنداً وداعماً يساعدها على تحقيق أحلامها وطموحها ويشاركها شغفها في الحياة.

في المقابل، تحزننا (سما) حين تصف مشاهد الحرب، والخراب، وضيق العيش في حلب خصوصا وفي سورية عموما. ورغم ذلك ظهر الجمال بين ثنايا الرواية عنوةً حين مرّت الأحداث على أماكن محببة إلى قلوبنا في حلب، فتارة تأخذنا إلى ساحة سعد الله الجابري، وتارة إلى القيصر وشهبا روز والكثير من الحدائق والشوارع والجوامع والمحال والأزقة القديمة والعبّارات.

 

أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني. يا قلعة حلب، يا جامعها الأموي، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءًا من آلامي، خذوني إليكم، ضُمُّوني بحنانكم؛ فأنا متعبة

 

أحببت الرواية، ولعلّ أكثر ما لامس قلبي فيها هي قصّة حبٍّ جانبيةٍ، لطيفةٍ وعاديةٍ، بمشاهد قليلة، وحواراتٍ بسيطةٍ وعفوية، ألا وهي قصّة سعيد وسلمى.

لا عجب، أليس لكلّ قارئٍ عشقَه الخاص؟!

 


 

بقلم: سحر خواتمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top