عمــر | نوفمبر 2012
أنهيت عملي وتوجَّهت مباشرة إلى بيت خالتي حسناء، وقبل أن أصل اتصلتُّ بها لأتأكَّد بشكلٍ غير مباشر من أنَّ سلام ليست في المنزل. كنت على مدار الأيام السابقة أنسِّق كلماتي قدر الإمكان وأبحث عن الطريقة الأنسب لشرح الموضوع. وقفت أمام المنزل، وتوكَّلت على الله، ثمَّ طرقت الباب.
-
- أهلاً خالتي.
-
- أهلاً يا حبيبي، تفضَّل، أين زوجتك؟
-
- هي زيارة سريعة، أودّ أن أطمئنَّ عليكم.
-
- أهلاً وسهلاً بك متى شئت، هل تشرب الشاي أم القهوة؟
-
- شكراً، لقد شربت كثيراً من المنبِّهات اليوم.
-
- سأحضر لك بعض العصير.
جلسنا معاً في غرفة المعيشة، وبعدما تبادلنا بعض الأحاديث الروتينيَّة، انتقلتُ إلى صلب الموضوع وقلت لها:
-
- خالتي، سأكون صريحاً، هناك أمرٌ أودُّ مناقشته معك.
صمتُّ قليلاً، ثمَّ أردفتُ:
-
- الأمر متعلِّقٌ بسلام.
نظرتْ خالتي نحوي بقلقٍ، وقالت:
-
- عسى خيراً!
-
- لا تقلقي! خيرٌ إن شاء الله، لكن أودُّ أن أعرف وجهة نظرك حول بعض الأمور.
-
- تفضّل يا بنيّ.
-
- كما تعلمين، فإنَّ سلام قد رفضت كرم مرَّاتٍ عديدة.
-
- هل سبَّب لكَ هذا الرفض أي إحراج مع أهل زوجتك؟
-
- لا إطلاقاً، هذه حياتها، ولا مشكلة في الرفض، وفي كلِّ الأحوال هي ما تزال صغيرة ولست داعماً لفكرة ارتباطها الآن.
-
- رغم أنِّي لا أوافقك الرأي، لكن أكمل ما عندك.
-
- حسناً.. بصراحة، فإنَّ صديقاً لي تحدَّث معي منذ فترة حول رغبته في طلب يد سلام.
-
- من هو؟ هل أعرفه؟
-
- لا أعتقد أنَّك تعرفينه، اسمه آدم.
ابتسمت خالتي، بل لعلَّها ضحكت بصوتٍ منخفضٍ وقالت:
-
- أنا التي أعرفه، آدم الشابّ الأسمر والطويل، أليس كذلك؟
أجبتها مستغرباً:
-
- نعم هو!
فسألتني:
-
- وما المشكلة؟
تنهَّدتُ ثمَّ أجبتها:
-
- لا أشعر أنَّ سلام قادرة على اتِّخاذ قرارٍ صائب حول اختيار شريك حياتها.
-
- عمر، هلَّا أوضحت أكثر!
صمتُّ ولاحظتْ خالتي ارتباكي، فالأمر محرج للغاية، كيف سأخبرها أنَّ سلام معجبة بآدم، وأنِّي لا أجده شخصاً مناسباً لها، وأخشى أنَّها قد توافق على الارتباط به بعجلةٍ واندفاعٍ وهي غير مدركة للعواقب!
قاطعتْ خالتي تساؤلاتي تلك وهي تقول:
-
- إذن، فصاحب أكبر صورةٍ في معرض سلام، قد أقبل بالفعل.
ابتلعتُ ريقي بصعوبةٍ، وسألتها:
-
- خالتي! ماذا تعرفين عن آدم؟
أجابتني ببساطةٍ:
-
- أعرف أنَّه الشخص الوحيد الذي استطاع أن يلفت انتباه ابنتي المدلَّلة سلام، لا أعتقد أنَّها تحبّه، لكنَّها معجبة به بشدَّة، أليس كذلك؟
-
- لماذا لم تسأليني عنه إذن؟
-
- عمَّ سأسألك؟
-
- ألم تشعري بالقلق حيال الأمر؟
ربتتْ خالتي على كتفي وهي تجيب:
-
- عن أيِّ قلقٍ تتحدَّث؟! لقد كنتُ سعيدة باكتشاف ذلك. لا أخفيك أنَّها قد بالغت بحجم وتوضُّع صورة آدم في المعرض، لكن ومع ذلك، فقد كانت الصورة جميلة.
قطّبت حاجبيّ كما لو أنِّي أحتاج إلى توضيحٍ أكثر، نظرتْ خالتي إليّ بحنانٍ ثمَّ قالت:
-
- عمر! ما المشكلة بالضبط؟ اسألني بوضوح.
-
- حسناً، دعينا نبدأ من البداية.
-
- أيّ بداية تقصد بالضبط؟ المعرض؟ زيارة المدينة القديمة؟ الساعة الضائعة؟ أم حفل زفافك؟
-
- أنتِ تعلمين التفاصيل، هل أخبرتك سلام بمدى إعجابها به؟!
-
- لا إطلاقاً، هي لم تخبرني إلى الآن بشكلٍ صريح. دعني أسألك، منذ أيام عادت سلام مرتبكةً من مكتبك، على ما يبدو أنَّك أخبرتها بنيَّة آدم في طلب يدها، هل هذا ما جعلها مضطربة؟
-
- نعم هذا ما حدث.
أخذت خالتي نفساً عميقاً، ثمَّ قالت:
-
- هذا جيد.
نظرت إليها باستغرابٍ مجدَّداً ولسان حالي يقول: “ما الجيد في الأمر؟”
لم تجبني خالتي على الفور، جلبتْ كأساً وصبَّت لي بعض العصير، ومن ثمَّ جلست وراحت تتحدَّث برويَّة وهدوء:
-
- اسمعني يا عمر، رغم أنَّ سلام لم ترتد المدرسة، وكان تعليمها منزليّاً، لكنّها كانت اجتماعيَّة، ولديها دائرة أصدقاء في كندا، حين أصبحت سلام في سنِّ يافعة، كنتُ قريبةً منها، وواضحةً وصريحةً، فهمتْ سلام في سنٍّ مبكرةٍ أنَّ الشُّبَّان المسلمين هم المرشَّحون فقط للإعجاب أو الحبِّ سمِّه ما شئت. كان لا بدّ من توضيح هذه الفكرة وتأكيدها مع كلّ فرصة متاحة، كنتُ أخشى عليها من كسرة القلب، وضياع الدين، فأنا لا أستطيع أن أراهن على حبٍّ يجعل شابّاً يسلم إسلاماً حقيقيّاً، ولذلك لا أجد ضرورة في أن تقحم سلام نفسها في تحدٍّ كهذا. وحين التحقت سلام بالجامعة، وكبرت دائرة معارفها، وزملائها وأصدقائها، كنتُ مترقبة على الدوام؛ من سيلفت نظرها؟ ومتى؟ وأين؟ من أي بلد؟ كيف ستكون أخلاقه؟ وتربيته؟ وبيئته؟ والتزامه؟ أنهت سلام دراستها ولم أشعر أنَّها قد وقعت في حبِّ أيٍّ ممن التقت بهم. عمر! ليس من السهل أن تضبط الفتاة مشاعرها وهي محاطة بأجواء مائعة للغاية، لا تنسَ أنّ صديقاتها ومنذ سن الخامسة عشر، صادقن الشبّان، وعِشنَ قصص حبٍّ. لا يمكن المقارنة بين فتاةٍ تعيش في مجتمعٍ محافظ وأخرى في مجتمعٍ متحرِّرٍ، فالأولى جلّ من حولها من الفتيات يخضن التجربة ذاتها، ويتحدَّثن حول مغامراتٍ متشابهة ومتقاربة؛ هل رأيتِ هذا الشاب الوسيم؟ يا إلهي كم أحبّ هذا المطرب! تقابلت اليوم مع ابن الجيران عند الدكّان، كم كان شهماً حين دفع عنِّي الحساب! وما إلى ذلك… أمَّا من تعيش في مجتمعٍ غربيّ متحرٍّر، فبإمكانك إطلاق العنان لمخيلتك عن مغامرات من حولها من الفتيات. هل فهمت لماذا لا أراها صغيرةً على الارتباط؟ يا عمر، تأخير الزواج هو أمرٌ دخيل على مجتمعاتنا، ومنحىً غير طبيعيٍّ للشبّان والشابّات، أوصلنا إليه تعقيد الحياة، وغلاء المعيشة، وتعسير الزواج، والتعامل مع اليافعين كما لو أنَّهم أطفال، وعدم تجهيز فئة الشباب لفكرة الاستقلالية والمسؤولية في سنٍّ مبكرة، في حين أنَّنا لسنا مضطرين لكلّ ذلك! بكل الأحوال، إنَّ ارتفاع متوسط سنّ الزواج أمرٌ جرى على الأغلبيّة، لذا فالفتاة وقريناتها لن يشعرن بالضغط في مجتمعنا كما لو كانت الفتاة في بلدٍ أجنبيّ ومتحرِّرٍ، هي وحدها من تعفُّ نفسها، وهي وحدها من تتقي الله. لم تمسك يوماً بيد شابّ، ولم تسمع كلام غزل، وببساطة لم تجرِّب أن تُحِب وتُحَب. هل تفهمني عمر؟
أومأت برأسي بالإيجاب، فأردفتْ خالتي كلامها:
-
- طيلة تلك السنوات، لم يكن الأمر بهذه السهولة، أن أستشفَّ مشاعر سلام من كلماتها، وانفعالاتها، لكن مع الوقت أصبح لديّ خبرة جيدة، لذا وحين ظهر آدم، شعرتُ بإعجابها به عن طريق كلماتٍ مقتضبةٍ وتعليقاتٍ بسيطةٍ صدرتْ منها بعفويةٍ عن شابٍّ هو صديق عمر، ركبتْ معه في سيارته يوم الزفاف، وبَّخها لأنَّها كانت تلتقط الصور بتهوُّرٍ وكادت أن تؤذي نفسها! يجيد رقصة “الدبكة” بمهارةٍ وخفَّة لا مثيل لها، شابٌّ رافق عمر وتابع مباراة لكرة القدم في أحد مقاهي المدينة القديمة، وهو ذاته الذي أعاد إليها ساعتها الضائعة، كنتُ أنتظر الإشارة التالية لتتأكَّد شكوكي، وبالفعل لم يمضِ بعدها وقتٌ طويلٌ حتّى قرَّرت سلام إنشاء معرضها، واختارت لصورته أفضل ركنٍ في المعرض، لا بل وضعت شمساً على زاويتها. يا إلهي كم هي عفوية هذه الفتاة؟!
نظرتْ خالتي نحوي، لتجدني محتاراً للغاية، فسألتني:
-
- لماذا تبدو مستغرباً إلى هذا الحدّ؟ لعلّك تسأل نفسك: ما الذي منعني من التحقيق معها حول الأمر؟
-
- ليس تحقيقاً، لنسمِّه استفساراً على الأقل!
-
- لا يا بنيّ، لم يكن الوقت مناسباً، كنتُ أراقب عن كثبٍ، لكن دون إزعاج، ما الضير في أن تتحرَّك مشاعرها تجاه شابٍّ ما دام أنَّها لم تخطئ؟ كنت سأقلق لو أنَّها بقيت جامدةً لا تتفاعل ولا تتأثَّر! هي تتصرَّف بعفويةٍ شديدةٍ، لا لن ألجم عفويتها وشعورها الفطري، أضف إلى ذلك أنِّي لم أشعر بضرورة التدخُّل أو الاستفسار ما دام أنَّ الشابّ صديقك أنت، ولن أخفيك سرّاً أسعدني أن أرى ابنتي معجبةً بشابٍّ كآدم، خلوق ومحترم ومهذّب، لذا بإمكانك تخيّل مشاعري وأنت تخبرني برغبته في طلب يدها، سلام فتاة وحيدة، هي بحاجةٍ إلى شريكٍ، يملأ حياتها، ونحن أيضاً، نريد أن نطمئنّ عليها ونفرح بها وبأطفالها.
-
- أتعلمين يا خالتي؟! لقد كنتُ مرتبكاً لا أدري كيف سأخبرك بالأمر، لكنَّك سهّلتِ عليّ المهمَّة الأولى.
-
- الأولى؟ فثمّة مهمّة ثانية إذن، هاتِ ما عندك!
-
- حسناً، من الضروري أن أخبرك بصراحة أنَّ آدم كان مرتبطاً في السابق، عاش قصَّة حبٍّ لكن لم تتم، وانفصل هو وخطيبته السابقة.
ضحكت خالتي مجدَّداً وقالت:
-
- صديقة جود، أليس كذلك؟
أجبتها:
-
- لا تقولي لي إنك على علمٍ بهذه الجزئية أيضاً!
-
- بالطبع، وهل كانت سلام لتكتم هذه المعلومة يوم عادت من المدينة القديمة؟!
وضعت يدي على جبهتي، وسألتها وأنا أضحك:
-
- وكيف أتى سياق الحديث؟ ليتني أعلم!
-
- لا أذكر بالتحديد.
-
- ألا يقلقك الأمر؟
-
- أتعني ارتباطه السابق؟
-
- نعم!
-
- أخبرني عمر، هل صديقك يخشى الله؟
-
- نعم، والله أعلم بما في القلوب.
-
- إذن فلندعها تخوض تجربتها بنفسها، تفكِّر وتقرِّر، أمَّا أنا فقلبي مرتاح لذاك الشابّ، يبدو طيباً للغاية، وقريباً من القلب، أدعو الله أن يسعدها دوماً، ويختار لها الخير.
-
- آمين!
صمتنا قليلاً، ثمَّ قلت لها:
-
- محظوظةٌ هي سلام، كم أنتِ قريبة منها! من معلوماتٍ قليلة استطعتِ تكوين صورة متكاملة وصحيحة عمَّا تشعر به وعمَّا يخالج نفسها.
صمتُّ قليلاً، ورحت أفكّر: عانيت لأكثر من ثلاث سنوات، وحين أفصحتُ لوالدتي عن رغبتي في الارتباط، بدت مندهشة للغاية، أتساءل: كيف لم تشعر بي؟!
أردفت حينها خالتي كلامها، وقالت:
-
- ضع بحسبانك أنَّ سلام صريحة بشكلٍ مفرط، ويلي! كيف عرضتْ صورته بهذا الوضوح؟! أتعلم؟! حمدتُ الله أنَّها وضعت شمساً في زاويتها ولم تضع قلباً.
ضحكتُ وأنا أجيبها:
-
- هذا ما كان ينقصنا بالفعل!
تحدّثت بعدها مع خالتي حول مواضيع مختلفة، ومن ثمّ استأذنتها بالرحيل. وحين خرجت من منزلها شعرت أنِّي أزحت عن كاهلي همَّاً كبيراً، وزال القلق الذي ساورني، إذ كان لا بدَّ من توضيح الأمر بصدقٍ وأمانةٍ لخالتي كي تكون على بيِّنةٍ، ودعوت الله أن يكتب لأختي الخير دائماً وأبداً.
عندما يجتمع في الأمّ الذّكاء مع التفهّم والرّحمة مع الحرص على الدّين وثوابت الأخلاق فإننا أمام أمّ جديرة بأن تكون قطعة من جنة الدنيا.
استمتعت بهذا الحوار الراقي بين عمر وخالته حسناء والدة سلام
وأسعدتني الرسائل الأخلاقيّة المتضمّنة فيه
بارك الله في عقلك وقلمك ومواهبك أيتها الأديبة الرّاقية